كرداسة .. وأنين الأنوال
على
بعد عشر دقائق فقط من أحضان أهرامات الجيزة، تغازل عينيك قرية صغيرة صنعت
السياحة بأدوات بسيطة استوحتها من بيئها المحلية .. آلاف من ورش المنسوجات
اليدوية يختلط ضجيج أنوالها معا ويخفت فى وقت واحد .. سائحون من هنا وهناك
يتهافتون على منتجات غزلتها أنامل هذا العجوز ومثله المئات، وربما الآلاف
الذين برعوا فى تلك المهنة وتوارثوها منذ سنوات طويلة.
نبرة
حزينة، خرجت تلك الكلمات من بين شفاه هذا العجوز الأسمر، وصف بها حالة
كانت هنا، رحلت وتركت كل شىء يئن .. كساد وضيق رزق بفعل أحداث عنف خيمت على
القرية منذ شهور وانقضت، إلا أنها أوقعت أرزاق أصحاب الورش فريسة لحالة من
الحظر والقلق والخوف، تبدد معها كل آمال لعودة تلك القرية إلى ما كانت
عليها.
أغلقت
الورش .. هجرها الحرفيون .. خلا السوق من ضحكات ومناكفة الزبائن .. خلا من
ضجيج الأنوال لا يكاد تسمع سوى وطأ أقدام البائعين يتجولون بين ورش ومحلات
السوق وتمتماتهم، تنعى أيام لم يستطع فيها الحرفى أو البائع الحديث مع
زميله إلا بعد موعد الإغلاق من شدة الإقبال وحركة البيع والشراء.
وبطريقة
"الفلاش باك"، اصطحب هذا العجوز، ويدعى "عم رشاد"، خيالنا ليبحر به فى
عالمه الخاص وبين أروقة ورشته .. هنا كان يجلس عم صابر على نول النسيج،
يغزل كليم وأحيانا أخرى جوبلان، وهنا كان يطرز عم عزيز بأنامله عباية
فيرزيه "شغل بارز" وأخرى صوف، وبالقرب منهما يشد عم مناع خيوط نوله
استعدادا لنسج ملاءة ليبية وسيوية، 16ساعة يوميا من
العمل الشاق، وبجواره يدير عم غزالى "الدولاب" .. عجلة فرد الخيط قبل
استخدامه على النول .. كرات من خيوط الصوف هنا وهناك، وأخرى من القطن
والحرير تتدحرج بالقرب منها بألوانها المميزة.
واستطرد
"عم رشاد"، الآلة الرئيسية التى نستخدمها هى النول، ويعود إلى عصر
الفراعنة، وكان يقام فى حفرة من الأرض لتوضع عليها دواسات خشبية يقف عليها
العامل، بينما بدأت صناعة النول والسجاد اليدوى فى كرداسة على يد عشرة
أشخاص، كانوا يمثلون نصف سكانها الأصليين، وهم يمثلون عائلات معروفة بالاسم
فى تلك الحرفة، ومن أبرزها بيت عيسى ومكاوى، والشيخ، والطيار، كما اشتهروا
أيضا بنسج وتفصيل العبايات المطرزة يدويا، والتى حفرت اسمها داخل مصر
وخارجها، حيث بات لها سوق عربية وأجنبية فريدة، يقصدها أصحاب الذوق الراقى،
وينظم لها المهتمون معارض سنوية فى جميع أنحاء العالَم، بجانب حرفة
السِّجاد اليدوى، والكليم.
وأبحر
"عم رشاد" بخيالنا إلى أبعد من ذلك بكثير، قائلا "يحكى أن بداية كرداسة
كانت فى تصنيع الملابس اليدَوية مع المحتل البريطانى لمصر (1882ــ 1952) بمقابل نقدى زهيد جدا، وبعد قيام ثورة 23يوليو 1952،
تم تأسيس ثلاثة مصانع ضخمة فى القرية، خصص أحدها: لصناعة الشاش الطبى،
والآخر: للقطن الطبى، والثالث: لتصنيع المستلزمات القطنية للفنادق، وأديرتْ
بواسطة القطاع العام، واستوعبت ثلثى الطاقة العاملة فى القرية، وبدأت
الورش الصغيرة تَتَخَصَّص فى تشْغيل النِّساء والبنات فى تصنيع الشيلان
والعباءات المطرزة.
وبعد
تجربة مصانع القطاع العام، بدأت التجارب الفردية تثبت ذاتها وكفاءتها فى
الصناعة اليدوية، وانطلقتْ من داخل المنازل ورش صغيرة وبسيطة، وفى الفترة (1970ــ 1980)
دخلت الصناعة اليدَوية فى قرية كرداسة طورًا جديدًا يتناسَب مع نوعية
الزائرين الأجانب للقرية، وظَهَر لأول مرة الشارع السياحى فى مدخل القرية؛
ليستقبلَ السائحين بالمنتجات والمشْغولات اليدوية، والعباءات المطرزة
يدويًّا.
واقْترن
اسم "الجلابية" بكرداسة فى البلاد العربية والأجنبية، وأصبح الشارع
السياحى شارعين متوازيين، تتخللهما شوارع أخرى فرعية وأزقة، نتيجة حركة
الازْدهار والانتعاش التى لحقت به، وكان آخر مظاهر الرواج التجارى ظهور
المولات "الأسواق التجارية المجمعة"، كأحد مظاهر النماء الاقتصادى للشارع؛
لتنافس كرداسة بمحلاتها وبازاراتها محلات خان الخليلى بمنطقة الأزهر.
وفى
نهاية كلامه .. ابتسم "عم رشاد" ابتسامة حزينة، وهو يهم بالوقوف من على
كرسيه المتهالك، وأغلق أبواب ورشته الصغيرة وتركنا بدون أن يكمل حديثه ..
ليراودنا بعدها سؤال لم يتفوه به .. ترى هل سأظل طويلا أسرد الحكاية بنفس
الخاتمة .. أم سيأتى يوم ونضيف للحكاية سطورا جديدة أكثر تفاؤلا؟.
تعليقات
إرسال تعليق