الحلال
أخرج البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«إنَّ الحلالَ بيَّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثيرُ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حِمى، ألا وإن حِِمى الله محارمُه، ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صَلَحت صَلَح الجسدُ كُلُّهُ، وإذا فسدت فسد الجسدُ كله، ألا وهي القلب».
هذا حديث عظيم، وهو أحد الأحاديث التي مدار الدين عليها وهي حديث عمر (إنما الأعمال)، وحديث عائشة (من أحدث في أمرنا) ثم هذا الحديث الذي معنا.
ومعنى الحديث أن الله أنزل كتابه، وبيّن فيه حلاله وحرامه، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ماخفي من دلالة الكتاب على التحليل والتحريم، فصرح بتحريم أشياءَ غيرِ مصرحٍ بها في الكتاب، وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب وراجعة إليه.
فصار الحلال والحرامُ على قسمين:
أحدهما: ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم، ولا يكاد يخفى إلا على مَنْ نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن دار الإسلام، فهذا هو الحلال البيّن والحرام البيّن.
القسم الثاني: ما لم ينتشر تحريمُه وتحليلُه في عموم الأمة، لخفاء دلالة النص عليه، ووقوع التنازع فيه، فيشتبه على كثير من الناس: هل هو من الحلال أو من الحرام؟
أما خواصُّ أهل العلم الراسخون فيه، فلا يشتبه عليهم، بل عندهم من العلم مايستدلون به على حِلّ ذلك أو حُرمته، فهؤلاء لايكون ذلك مشتبهًا عليهم لوضوح حكمه عندهم.
وأما من لم يصل إلى ما وصلوا إليه، فهو مشتبِهٌ عليه، فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتَبه عليه حِلُّه وحُرْمُه واجتنَبه، فقد استبرأ لدينه وعرضه، أي طلب لهما البراءة مما يشينُهما.
وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى، كما ورد في الأثر (لا يبلغ العبدُ أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس).
ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لمحارم الله بالحمى الذي يحميه الملِكُ من الأرض، ويمنعُ الناس من الدخول فيه، فمن تباعد عنه فقد توقَّى سُخط الملِك وعقوبته ومَن رعى بقرب الحمى فقد تعرَّض لمساخط الملك وعقوبته لأنه ربما دعَته نفسه إلى الولوج في أطراف الحمى.
وفى هذا دليلٌ أخي المستمع على سدِّ الذرائع والوسائل إلى المحرمات، كما تحرُم الخلوة بالأجنبية لئلا يقعا فى الزنا وكما يحرم شربُ قليلِ ما يُسكِرُ كثيرُه.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها، وأن ذلك كله بحسَب صلاح القلب وفساده، فإذا صلح القلبُ صلحتْ إرادته، وصلحت جميعُ الجوارح، فلم تنبعث إلا إلى طاعة الله، واجتناب سَخَطِه، فقنِعت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت جميع الجوارح وانبعث في معاصي الله عز وجل، وما فيه سَخَطُه ولم تقنع بالحلال، بل أسرعت في الحرام، بحسب هوى القلب وميلهِ عن الحق.
فالقلب الصالح هو القلب السليم، الذي لا ينفع يومَ القيامة عند اللهِ غيرُه وهو أن يكون سليمًا عن جميع ما يكرهه اللهُ، ولا يكونُ فيه سوى محبةِ الله وإرادتهِ، ومحبَّتِه ما يحبه اللهُ وإرادة ذلك، وكراهِة ما يكرهُه الله، والنفورِ عنه، والقلبُ الفاسد هو القلب الذي فيه الميلُ إلى الأهواء المضلة والشهوات المحرَّمة، وليس فيه من خشية الله ما يَكُفّ الجوارح عن اتباع هوى النفس.
فالقلب -أخي المستمعُ الكريم- ملِكُ الجوارح وسلطانُها والجوارح جنوده ورعيتهُ المطيعةُ له، المنقادَةُ لأوامره فإذا صلحَ الملِك، صلحت رعاياه وجنودُه، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه.
والمقصودُ أن من اتقى الأمورَ المشتبهةَ عليه التي لا تتبينُ له أحلالٌ هي أم حرام فإنه مستبرئ لدينه أي طالبٌ له البراءة والنزاهة مما يدنِّسه.
ويلزم من ذلك أن من لم يتق الشبهات فهو معرِّض دينه للدَنَس والقدح فصار الدِّين بهذا الاعتبار إما نقياً نزها بريئاً وإما دنساً متلوثاً والدين يوصف بالقوة والصلابة كما يوصف بالرقة والضعف ويوصف بالكمال كما يوصف بالنقص، والإيمان يزيد وينقص، ويقوى ويضعف .. هذا كله إذا قِسْنا الدين والإيمان والإسلام بالنسبة إلى شخصٍ شخص، أما إذا نظرنا إليه بالنسبة إلى نفسه من حيث هو هو فإنه يوصف بالنزاهة.
وقد صدق من قال : الإسلام نِقىُّ فلا تدنّسه بآثامك.
جعلنا الله وإياكم ممن يحل الحلال ويحرم الحرام ويتجنبُ الشبهاتِ ويتورع عنها، وجعل قلوبنا وإياكم من القلوب الصالحة.
المصدر: كتاب (قبس من نور النبوة).
«إنَّ الحلالَ بيَّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثيرُ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حِمى، ألا وإن حِِمى الله محارمُه، ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صَلَحت صَلَح الجسدُ كُلُّهُ، وإذا فسدت فسد الجسدُ كله، ألا وهي القلب».
هذا حديث عظيم، وهو أحد الأحاديث التي مدار الدين عليها وهي حديث عمر (إنما الأعمال)، وحديث عائشة (من أحدث في أمرنا) ثم هذا الحديث الذي معنا.
ومعنى الحديث أن الله أنزل كتابه، وبيّن فيه حلاله وحرامه، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ماخفي من دلالة الكتاب على التحليل والتحريم، فصرح بتحريم أشياءَ غيرِ مصرحٍ بها في الكتاب، وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب وراجعة إليه.
فصار الحلال والحرامُ على قسمين:
أحدهما: ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم، ولا يكاد يخفى إلا على مَنْ نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن دار الإسلام، فهذا هو الحلال البيّن والحرام البيّن.
القسم الثاني: ما لم ينتشر تحريمُه وتحليلُه في عموم الأمة، لخفاء دلالة النص عليه، ووقوع التنازع فيه، فيشتبه على كثير من الناس: هل هو من الحلال أو من الحرام؟
أما خواصُّ أهل العلم الراسخون فيه، فلا يشتبه عليهم، بل عندهم من العلم مايستدلون به على حِلّ ذلك أو حُرمته، فهؤلاء لايكون ذلك مشتبهًا عليهم لوضوح حكمه عندهم.
وأما من لم يصل إلى ما وصلوا إليه، فهو مشتبِهٌ عليه، فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتَبه عليه حِلُّه وحُرْمُه واجتنَبه، فقد استبرأ لدينه وعرضه، أي طلب لهما البراءة مما يشينُهما.
وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى، كما ورد في الأثر (لا يبلغ العبدُ أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس).
ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لمحارم الله بالحمى الذي يحميه الملِكُ من الأرض، ويمنعُ الناس من الدخول فيه، فمن تباعد عنه فقد توقَّى سُخط الملِك وعقوبته ومَن رعى بقرب الحمى فقد تعرَّض لمساخط الملك وعقوبته لأنه ربما دعَته نفسه إلى الولوج في أطراف الحمى.
وفى هذا دليلٌ أخي المستمع على سدِّ الذرائع والوسائل إلى المحرمات، كما تحرُم الخلوة بالأجنبية لئلا يقعا فى الزنا وكما يحرم شربُ قليلِ ما يُسكِرُ كثيرُه.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها، وأن ذلك كله بحسَب صلاح القلب وفساده، فإذا صلح القلبُ صلحتْ إرادته، وصلحت جميعُ الجوارح، فلم تنبعث إلا إلى طاعة الله، واجتناب سَخَطِه، فقنِعت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت جميع الجوارح وانبعث في معاصي الله عز وجل، وما فيه سَخَطُه ولم تقنع بالحلال، بل أسرعت في الحرام، بحسب هوى القلب وميلهِ عن الحق.
فالقلب الصالح هو القلب السليم، الذي لا ينفع يومَ القيامة عند اللهِ غيرُه وهو أن يكون سليمًا عن جميع ما يكرهه اللهُ، ولا يكونُ فيه سوى محبةِ الله وإرادتهِ، ومحبَّتِه ما يحبه اللهُ وإرادة ذلك، وكراهِة ما يكرهُه الله، والنفورِ عنه، والقلبُ الفاسد هو القلب الذي فيه الميلُ إلى الأهواء المضلة والشهوات المحرَّمة، وليس فيه من خشية الله ما يَكُفّ الجوارح عن اتباع هوى النفس.
فالقلب -أخي المستمعُ الكريم- ملِكُ الجوارح وسلطانُها والجوارح جنوده ورعيتهُ المطيعةُ له، المنقادَةُ لأوامره فإذا صلحَ الملِك، صلحت رعاياه وجنودُه، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه.
والمقصودُ أن من اتقى الأمورَ المشتبهةَ عليه التي لا تتبينُ له أحلالٌ هي أم حرام فإنه مستبرئ لدينه أي طالبٌ له البراءة والنزاهة مما يدنِّسه.
ويلزم من ذلك أن من لم يتق الشبهات فهو معرِّض دينه للدَنَس والقدح فصار الدِّين بهذا الاعتبار إما نقياً نزها بريئاً وإما دنساً متلوثاً والدين يوصف بالقوة والصلابة كما يوصف بالرقة والضعف ويوصف بالكمال كما يوصف بالنقص، والإيمان يزيد وينقص، ويقوى ويضعف .. هذا كله إذا قِسْنا الدين والإيمان والإسلام بالنسبة إلى شخصٍ شخص، أما إذا نظرنا إليه بالنسبة إلى نفسه من حيث هو هو فإنه يوصف بالنزاهة.
وقد صدق من قال : الإسلام نِقىُّ فلا تدنّسه بآثامك.
جعلنا الله وإياكم ممن يحل الحلال ويحرم الحرام ويتجنبُ الشبهاتِ ويتورع عنها، وجعل قلوبنا وإياكم من القلوب الصالحة.
المصدر: كتاب (قبس من نور النبوة).
تعليقات
إرسال تعليق